بين حبات القمحِ، لاحَ وجهها الملفوح بخطوط الشمس ، والعرقُ المنساب من مسام التعبِ يكتبُها سطوراً من القهر.. وحدها الحقول تعرفُ أنينها الساكت .. وحدها الميابرُ والمناجلُ سمعت مواويل عتابها ..
وحده الغروب كان يعرفُ حزنها المتكىء على لحاظ الاشتياق ولهيب نيرانه ..
تظهرُ بين التراب كوردة نابتة بين أبر الشوك تنزفُ من وخز الزمن قيحَ الألم ..
هي الفلاحة التي تربّت بين الحقول فتعطرت برحيق الزهر ، وتعلّمت حروف الحقيقة على ضوء قنديلٍ شحيح الضوءِ ..
هي الفلاحة الفقيرة التي سمّاها " أميرة " ، وحفر حروف اسمها على زناد رشاشه ، وعلى حيطان المغاور ، وأخبر عنها السهول والجبال وقدماه تصعدان الوعر قبل طلوع الصبح ..
بينهما مسافات شاسعة ، لكنها كانت تحسُ بطيفه يعبر تلك المسافات إليها ، وكان يسمعُ صوتها يدعو له فيطمئن قلبه المشتاق ..
كانت أيامها تنقضي متشابهةً ، هذا السكون الصاخب الذي يمزق أيامها ، تُحيكه على صنّارةٍ تجيد مراقصة أناملها لتصنع وشاحاً جميلاً لخطيبها المقاوم يلف به رقبته في برد الليالي .. لأجله وحده تعدّ الأيام ، وتسهر الليالي ، وتهمس للنجوم بما تود أن تخبره به .. هو قال لها أن ترسل له مكاتيبها مع النجوم .. مع ضوء القمر السارح على وجهيهما .. وتسأل عنه الريح ، في أي مغارة تراه يكون .. في أي مكان محفوف بالخطر تخطان قدماه الأرض ..
أما هو فقد كتب قصة خطوبتهما الغريبة قصيدة احتفظ بها دائماً في جيبه ليقرأها عندما تسنح له الفرص ، حتى أن رفاقه كلما رأوا الورقة البالية من كثرة الاستعمال تفتح بين يديه ، استنكروا عليه قراءتها فهو يحفظها عن ظهر قلب ، أما هو فكل كلمةٍ عنده نافذة لذكرى جميلة ..
ويعيد عليهم قصته ، إنها فتاة جنوبية تقطن مع والدتها في الداخل المحتل في إحدى قرى المواجهة ، وهي شقيقة رفيقه " باقر " أحد أفراد المجموعة ، لم تستطع أن تترك أمها التي أصرت أن تبقى في قريتها متحملة كل مضايقات عناصر ميليشيا لحد والجيش الصهيوني ، لتزرع الأرض وترفد البيت بالحياة ليبقى ..
كان " باقر " ، من حينٍ لآخر يتسلل إلى القرية ليلاً ليرى أمه وأخته ، ثم ينسحبُ دون أن يشعر به أحد ، وكانت والدته تحدثُ في القرية عن ابنها الذي يعمل في أحد معامل العاصمة من الصباح حتى المساء لتُبعده عن الشبهات ، وحتى لا يتعرض منزلها للمداهمة في ليلة قد يكون ولدها الحبيب زائراً في قبو البيتِ الموصد جيداً ..
وفي ليلةٍ من ليالي الشتاء ، كان و " باقر" في مهمةٍ في عمق الأراضي المحتلة ، وقد مضى على تواجدهما عشر أيام ، وحصل ما لم يكن بالحسبان ، غارات إسرائيلية ، وقصفٌ عشوائي ، ما اضطرهما ، وبأمر من القيادة ، أن يتأخرا في العودة ، حتى لا تفشل المهمة ..
كان مخبأهما لا يبعد كثيراً عن منزل " باقر " ، فانتظرا حتى لَوّن الغروب أفق السماء ، وألقى ضباب الصقيع وشاحه على الأشجار ، وسارا على الطريق الذي يحفظها " باقر " نحو المنزل .. كانت أمه تعيش قلقاً رهيباً عليه ، فهو لم يزرها منذ ثلاثة أشهر ، ولكن صوت طرقاتٍ خفيفة على الحائط جعلها تقوم مسرعة لتنزل الى القبو ، فيما طلبت من ابنتها أن تهيىء بعض الطعام .
وجاءتْ على استحياء تحمل لهما الطعام ، نكس عينيه خجلاً منها ، ثم ما لبثت أن انسحبتْ وقد فتح " باقر " باب الرحيل ..
ازداد هطول المطر ، و طال المسير ، لكنه لم يستطع أن ينسى وجهها الحزين ..
وصلا إلى مركز عملهما منهكين ، لكنه لم ينم ، فقد جلس بالقرب من صديقه ينتظره أن يستيقظ ، وما إن فتح الأخير عينيه ، حتى بادره بالقول : " هل تقبل بأن تزوجني أختك ؟! "
استغرب " باقر " لهذا الطلب : و لكنك لا تعرفها ؟!
- لكني أعرفك جيداً ..
لم يتعبْ كثيراً حتى اقنع رفيقه بالموافقة ، ولكن " باقر " استمهله حتى يسألها ، فما كان منه إلا أن استأذن من مسؤول النقطة ليذهب ورفيقه الى البيت في القرية بعد اسبوعٍ واحد لا أكثر ..
في قارب الليل عبرا الطريق ، على أن يعودا بعد أربعة أيام .. وصلا بعد يومين ، ولم تصدق والدة " باقر " نفسها عندما سمعت الطرقات على الحائط فأسرعت نحو القبوِ ومشاعر الخوف والفرحِ تتضارب في نفسها ، ولكن ما لم يخطر ببالها أن تكون تلك الليلة ، ليلة عقد قران ابنتها .
اقترب باقر من أخته وقد أحنت رأسها احتراماً وخجلاً .. همس لها بما يجول في سريرة رفيقه ، وطلب إليها ألا تستعجل بالرد لأنها لا تعرفه ، مستطرداً أنه لو لم يكن يعرف رفيقه جيداً لما عرّضا نفسيهما للخطر وقطعا هذه المسافات لأجل هذا الموضوع ..
أجابت وقد استندت على يد اخيها : أنا أعرف اختيارك جيدا، فافعل ما تراه مناسباً ..
باقر : ولكنه قد يستشهد !
برقت عيناها وشخصت نحو أخيها : أن يستشهد عزيزاً خير من أن يحيا ذليلاً ..
عقد " باقر " قران رفيقه على أخته ، وعادا في الليلة ذاتها ، وسعت هي للحصول على تصريحٍ للخروج من القرية بأسرع وقت ، لكنها لم توفق ، فالعملاء منعوا إعطاء التصاريح لمدة ثلاثة أشهر ، فكان كل شهر يذهب ليطمئن عليها ..
أنهى قصته واستلقى ليغفو قليلاً ، لكنّ أوامر من القيادة جعلت المجموعة بأسرها تنطلق بسرعة في مهمة عاجلة .
بقيت المجموعة في المحاور المتقدمة مدة ثلاثة أيام ، وفي طريق العودة ، طلب إليهم أن يذهب ليتفقد خطيبته خصوصاً وان مسافة الطريق قصيرة جداً ، رفض " باقر " طلبه ، لكنه أصر عليه بشكل استغرب له الجميع .. فأذن له على أن يلتحق بالمجموعة بأسرع ما يمكن ..
وفعلاً ، لم يتأخر .. وقفتْ هي على باب القبو وقد لفت رقبته بشالِ الصوف ، كان سعيداً جداً بعد أن عرف أنها حصلت أخيراً على تصريح ، وأخبرته أنها توضب الحقائب ، فابتسم وأدار ظهره ليغادر .. مشى خطوتين وأدار وجهه ليرى ملامحها الغارقة بحزنها العميق ، فعاد وأعطاها قطعة قماش صغيرة ملفوفة جيداً ، وطلب إليها أن لا تفتحها إلا عندما يلتقيان ..
سمعتْ صوت الريح كصهيل خيل الرحيل تعدو في طريق اللارجوع .. استعاذت باللّه ، ودخلت إلى القبو ليس هرباً من البرد ، بل خشية أن تلحق به خوفاً عليه ، وضعت قطعة القماش على رفٍ في القبو وجلست تنظر إليها ..
استطاع أن يلتحق بالمجموعة في وقتٍ قصير ، ولشدة فرحه بدأ يدعو رفاقه لحضور حفلِ زفاف صغير سيقيمه بعد اسبوعين ..
قبل يوم واحد من وصولها ، كمنت المقاومة لمجموعة من الجيش الإسرائيلي ، وحصلت مواجهة عنيفة أدت الى مقتل أكثر من ثلاثة جنود صهاينة وجرح خمسة اخرين ، وزفت المقاومة شهيدين بطلين ..
كانت تقفُ على الباب تنتظرُ سيارة الأجرة لتقلها الى المعبر ، عندما سمعت صرخة أمها التي لم تنم طوال الليل وهي تدعو اللّه أن يحفظ المجاهدين ، والان سمعت اسم الشهيدين اللذين زفتهما المقاومة الإسلامية عبر المذياع .. انحدرت دمعة على خدها توجهت ببطء نحو القبو ، حملت قطعة القماش وفتحتها فوجدت فيها خاتم العرس وقد لُفَّت ورقة بداخلها .. كتب لها: " ربما لم نعرف بعضنا كثيراً، ولم نجالس بعضنا، ولكن ثقي أينما كنتِ فأنت معي، فهل تقبلين بي زوجاً لكِ؟ "
وضعتْ خاتم العرس في إصبعها وحضنته وهي تتمم : "طبعاً أيها المجاهد الشهيد .. "
- من كتاب خاتم العرس - نسرين ادريس .