نجيب محفوظ.. اليد المبدعة التي بترها الْجهَلَة
لا مفرَّ. ليس ثمّة من مجال لكتابة نصٍّ في الحبّ أو عنه. حتى عندما تُقرِّر أن تُقلع عن عادة جنوحك لكتابة مرثيات قوميّة، يأتي مَن يطلب منك رثـاءً "مسبقاً" لكاتب على "قائمة الانتظار" للرحلة الأخيرة.
عن حياء يُسمِّي ذلك "شهادة"، يُبشِّرك بأنها ستُنشر مع شهادات لكتّاب كبار آخرين في الوقت المناسب، في ملفٍّ كامل عن الفقيد المنتظر. لا يدري أنّك الفاقد والفقيد. ففي كلّ موت لمبدع تمرينٌ على موتك، وتأمُّل في وليمة الموت التي تفتح شهيّة الأقلام (والأفلام). فالموت غَدَا استثماراً جيداً. وحده الحزن على الفقيد مفقود لفرط وجوده الإعلامي.
موت الكبار في ازدهار، فبشرى لكتّاب السِّيَر الذاتية، ومُنتجي المسلسلات الرمضانية، والشطّار الذين سطوا على حيوات المشاهير وحوّلوها بذريعة السينما إلى دكاكين ارتزاق.
الصحافة العربية أيضاً في تقدُّم، مبرَّر مهنياً. ما عادت تُواكب الحدث، بل تسبقه، إلى حدِّ مسابقة الموت نفسه. حتى إنّ بعض الصحف فاجأتني بمطاردتها الهاتفية لي، واتصالها بي مراراً قبل وفاة نجيب محفوظ بأسبوعين لتطلب مني شهادة عنه.
في موت سابق، قاومت كثيراً منطق الاستسلام لذلك الابتزاز العاطفيّ. الذين أُحبُّهم لا أُحبُّ أن أرثيهم على صفحات الجرائد، خاصة إذا كان ضوؤهم أكبر من حِدادي عليهم.
مهم في هذه الحالات، ألا تبدو سارقاً صغيراً لضوء أكبر من كفّك. لذا، منذ سنوات، وأنا أقمع رغبتي في كتابة كتاب ينصف نزار قباني ولا يشبه حتماً، ذلك المسلسل المتجنّي عليه، الذي شاهدناه في رمضان الماضي.
عدا هذا، أنا لم أعرف المرحوم نجيب محفوظ، ولا قرأت من أعماله الخمسين سوى ثلاثة، ولم أُجالسه سوى ساعتين في حياتي، بمناسبة نَيْلِي الجائزة التي تحمل اسمه. ولا أدري إن كان هذا يؤهلني لأن أعطي تصريحات للصحافة عن رأيي فيه، وأُنظِّر عن الأدب العربي قبله وبعده، وأُبدي فاجعتي الأدبيّة بفقدانه.
الحقيقة أنني لا أشعر بحزن لموته. هذا الرجل الدقيق كساعة، لعلَّه اختار ساعته. ما عاد هذا زمناً للكبار، أو لعلَّ ما عاد ثمَّة ما يقوله، وقد غَدَا ما نقرأه له يُقال على لسانه، لا بقلمه.
نجيب محفوظ مات في الواقع سنة 1994، يوم اغتالـوا يده اليمنى إثر طعنة تلقّاها في كتفه على يد أُميِّين جَهَلَــة. الظَّلاميون سرقوا يده وبصره وسمعه وتركوه يعيش مع جثة يد. طوال لقائي به كان مُمسكاً بيده اليمنى، كما ليتأكّد من وجودها· وأنا التي كتبت كثيراً عن المبتورين، اكتشفت يومها أن أصعب من فقدان يد.. تعايش كاتب مع جثتها، كلَّ لحظة، إلى آخر لحظة.
ما أذكره من لقائي به، أنني انحنيت أُقبِّل يده اليمنى. وطلبت أن تُـؤْخَذَ لي صورة تُوثّق تلك اللحظة، تحدِّياً للقَتَلَة، واعتذاراً لنصوص لن تُكتب.
أُباهي بأنني قبّلت يد نجيب محفوظ، على الرغم من كوني لم أنحنِ لموهبته أو إجلالاً لقدْرِه، بل اعتذار لقَدَرِه في زمن الشقاء العربي.
نجيب محفوظ، ليس حامل جائزة "نوبل" للآداب فحسب، إنما أيضاً، حامل جثة اليد، التي صَنَعَت مجدنا وقطعناها، لأننا أُمَّــة تحترف بتــر ما هو جميل.
آن لتلك اليد أن تستريح. أعترف اليوم بأن شبحها طــاردنـي طويلاً، ولاَزَمَنِي عندما أجريت منذ سنة عملية صغيرة في كتفي اليمنى بسبب "التكلُّس".
ماذا لو كانت أيدي الكتّاب تستيقظ "هناك" لتُواصِــل الكتابــة؟
أحلام مستغانمي